فصل: فصل في المروءة ودرجاتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وجاد علينا بخيرات وفيرة غفلنا عنها، وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، أعطانا جل وعلا العقل، وميزنا به عن الحيوانات، وأرسل إلينا الرسل، يرشدوننا للحق وخالص الإيمان، منحنا القوة والعافية، وصحة البدن، وسلامة الأعضاء.
وجعل لنا السمع، والبصر، واللسان، والشفتين، وعلمنا البيان والإفصاح، عن ما نقصد بالكلام، خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا الأرض فراشًا، والسماء بناء، وأنبت لنا في الأرض النخيل، والأعناب والزرع وسائر ما نحتاج إليه من الثمار، ونستخرج منها المعادن، والخامات.
وأجرى لنا فيها الأنهار، وأنبع لنا الماء الزلال، وخلق الشمس والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره تمدنا بالأنوار، والمنافع، للأبدان والثمار، والنباتات، وفيها من الإتقان، والجمال، والاتزان فِي سيرها مدى الليالي والأيام، مَا تشهد لله بالوحدانية، والحكمة، والقدرة الباهرة، والعلم، وسائر صفات الكمال.
ولله نعم أخرى لا تعد، ولا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إذًا يجب علينا شكره تعالى عَلَى نعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، وليس لله فِي شكرنا منفعة تعود إليه، وليس فِي كفر نعمه ضرر عليه، إنما تعود منفعة الشكر إِلَى الشاكر كما قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.
إنما الذي ينتظر الشكر مخلوق مثلنا وأنت إذا شكرت الله إنما تبرهن عَلَى فهمك لنعمة الله، وتقديرك له إن شكرت فقد وجهت النعمة وجهة الخير، والنفع، واستعملتها فيما يسعدك فِي الدنيا والآخرة، وإن كفرت فقد برهنت على سوء فهمك، وعدم تقديرك لربك، وعَلَى تعمقك فِي اللؤم والرداءة.
وإذا تأملت الكثير من الناس وجدته مهملاً للشكر الذي هو صرف النعم فيما خلقت له، واستعمالها فيما شرعت لأجله، لتظهر فائدتها وتتم حكمتها، ويجني العباد منافعها، فالشاكر بلسانه وقلبه، وعمله من الفائزين، ولكنه قليل، كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} الأكثر كما تقدم صروفها فيما يعود عليهم، وعَلَى أولادهم، وأهلهم، وأمتهم بالضرر.
أنعم عليهم بالمال فقسم خزنوه ومنعوا حقوقه فلم يخرجوا زكاته، ولم يساهموا فِي مشاريع دينية، كبناء مساجد، وقضاء دين عن مدين ومساعدة فقير، وإجراء مياه للمسلمين، والمساعدة على نشر الإسلام وطباعة مصاحف طباعة جيدة وتوزيعها عَلَى التالين لكتاب الله، وطباعة الكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية، وبناء بيوت لمن لا مساكن لهم، ونحو ذلك.
وقسم أنفقوا المال فِي الملاذ والملاهي، والمنكرات، وسائر المحرمات، أذهبوها فِي الحياة الدنيا، واستمتعوا بها، ولم يراقبوا الله فيها، أنعم عليهم فِي الصحة والفراغ المفروض أن تغتنم فِي طاعة الله.
ولكن يا للأسف صرفت فِي السهر، وفي الفساد، وفي المجون والكسل والتكسع، والخمول أو التطاول بالقوة عَلَى الضعفاء، والمساكين، وإعانة الظلمة والفاسقين، ونحو ذلك، من المفاسد والشرور.
وقس عَلَى ذلك باقي النعم من السمع والبصر واللسان والرجل فلم يبق نعمة إلا وقلبوها، ولا هبة من الله إلا وجحدوها فنزلوا بعد الرفعة وذلوا بعد العزة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال بعضهم فِي مدح اللطيف الخبير جل وعلا وذكر بعض ألطافه:
أَحَاطَ بِتَفْصِيلِ الدَّقَائِقِ عِلْمُهُ ** فَأَتْقَنَهَا صُنْعًا وَأَحْكَمَهَا فِعْلا

فَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظُ الْجَنِينِ وَصَوْنُهُ ** بِمُسْتَوْدَعٍ قَدْ مَرَّ فِيهِ وَقَدْ حَلا

تَكَنَّفَهُ بِاللُّطْفِ فِي ظُلُمَاتِهِ ** وَلا مَالَ يُغْنِيهِ هُنَاكَ وَلا أَهْلا

وَيَأْتِيهِ رِزْقٌ سَابِغٌ مِنْهُ سَائِغٌ ** يَرُوحُ لَهُ طَوْلاً وَيَغْدُو لَهُ فَضْلا

وَمَا هُوَ يَسْتَدْعِي غِذَاءً بِقِيمَةٍ ** وَلا هُوَ مِمَّنْ يُحْسِنُ الشُّرْبَ وَالأَكْلا

جَرَى فِي مَجَارِي عِرْقِهِ بِتَلَطُّفٍ ** بِلا طَلَبٍ جَرْيًا عَلَى قَدْرِهِ سَهْلا

وَأَجْرَى لَهُ فِي الثَّدْيِ لُطْفَ غِذَائِهِ ** شَرَابًا هَنِيئًا مَا أَلَذَّ وَمَا أَحْلا

وَأَلْهَمَهُ مَصًّا بِحِكْمَةِ فَاطِرِ ** لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ الْجَزِيلُ بِمَا أَوْلا

وَأَخَّرَ خَلْقَ السِّنَّ عَنْهُ لِوَقْتِهَا ** فَأَبْرَزَهَا عَوْنًا وَجَاءَ بِهَا طَوْلا

وَقَسَّمَهَا لِلْقَطْعِ وَالْكَسْرِ قِسْمَةً ** وَلِلطَّحْنِ أَعْطَى كُلَّ قِسْمِ لَهَا شَكْلا

وَصَرَّفَ فِي لَوْكِ الطَّعَامِ لِسَانَهُ ** يُصَرِّفُهُ عُلْوًا إِذَا شَاءَ أَوْ سُفلا

وَلَوْ رَامَ حَصْرًا فِي تَيَسُّرِ لُقْمَةٍ ** وَأَلْطَافِهِ فِيمَا تَكَنَّفَهَا كَلا

فَكَمْ خَادِمٍ فِيهَا وَكَمْ صَانِع لَهَا ** كَذَلِكَ مَشْرُوبٌ وَمَلْبَسُهُ كلا

وَكَمْ لُطْفٍ مِنْ حَيْثُ تَحْذَرُ أَكرَمَتْ ** وَمَا كُنْتَ تَدْرِي الْفَرْعَ مِنْهَا وَلا الأَصْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ تَكْلِيفُهُ لِعَبَادِهِ ** يَسِيرًا وَأَعْطَاهُمْ مِن النِّعِمِ الْجَزْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ تَوْفِيقُهُمْ لإِنَابَةٍ ** تُوَصَّلُ لِلْخَيْرَاتٍ مِنْ حَبْلِهِمْ حَبْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ بَعْثُ النَّبِي مُحَمَّدًا ** لِيَشْفِعَ فِي قَوْمِ وَلَيْسُوا لَهَا أَهْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظُ الْعَقَائِدِ مِنْهُمُوا ** وَلَوْ خَالَفَ الْعَاصِي الْمُسِيءُ وَإِنْ زَلا

وَمِنْ لُطْفِهِ إِخْرَاجُهُ عَسَلاً كَمَا ** تُشَاهِدُ مِمَّا كَانَ أَوْدَعَهُ النَّحْلا

وَإِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ مُجَاوِرٍ ** دَمًا لَبَنًا صِرْفًا بِلا شَائِبٍ رِسْلا

وَإِخْرَاجُهُ مِنْ دُودَةٍ مَلْبَسًا لَهُ ** رُوَاقًا عَجِيبًا أَحْكَمَتْهُ لَنَا غَزْلا

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا خَلْقُهُ الْقَلْبَ عَارِفًا ** بِهِ شَاهِدًا أَنْ لا شَبِيهِ وَلا مِثْلا

وَأَلْطَافُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فَخُذْ بِمَا ** بَدَا لَكَ وَأَشْهَدْهَا وَإِيَّاكَ وَالْجَهْلا

وَصَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ** على خَالِصِ الْعِرْفَانِ بِاللهِ قَدْ دَلا

اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين.

.فصل في المروءة ودرجاتها:

المروءة بمعنى الإنسانية لأنها مأخوذة من المرء وهي تعاطي مَا يستحسن وتجنب مَا يسترذل قال بعضهم: حد المروءة رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم.
وقيل: هي آداب نفسية تحمل مراعاتها الإنسان عَلَى الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. وقيل: هي قوة للنفس مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها المستتبعة للمدح شرعًا وعقلاً وفرعًا وكلها قريبة المعنى. وقيل: هي الصدق والشرق والاستقامة والشجاعة والحمية.
وقال بعضهم: المروءة كلمة لفظها كمعناها حلو جميل إن قرعت السمع فعظمة وجلال وإن نفذت عَلَى القلب فنبل وسمو وشعور بالكرامة والكمال ولست أعدل عن الحق إن قلت إن المروءة هي جماع الفضائل ورأس المكارم وعنوان الشرف بها يسمو المرء ويرتفع ذكره وبفقدها يفقد كل كرامة وفضل.
فهي ميزان الرجال وأصل الجمال وحد المروءة تجمل النفس بما يزينها وتحصينها مما يشينها بحيث تكون للمحامد أهلاً وعن المذام# بمنأى ولا يكون إلا لمن راض نفسه عَلَى التخلف بالخلق الحسن من الصفات والتجمل بجميل العادات حتى يصبح التطبع جبلة والتعود غريزة وليس يستطيع ذلك إلا من جاهد نفسه ونازع هواه رغبة فِي حسن الأحدوثة والذكرى الجميلة. كما قيل:
لَقَدْ أَسْمَعُ الْقَوْلَ الذِّي كَادَ كُلَّمَا ** تُذَكِّرُنِيْهِ النَّفْسُ قَلْبِيْ يُصَدَّعُ

فَأُبْدِي لِمَنْ أَبْدَاهُ مِنِّي بَشَاشَةٍ ** كَأَنِّي مَسْرُورٌ بِمَا مِنْه أَسْمَعُ

وَمَا ذَاكَ مِنْ عُجْبٍ بِهِ غَيْرَ أَنَّنِي ** أَرَى أَنْ تَرَكَ الشَّرِ لِلْشَّرِ أَقْطَع

آخر:
وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيْثٌ بَعْدَهُ ** فَكُنْ حَدَيْثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى

مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ ** وَالْمَرْءُ يَبْقَى بَعْدَهُ حُسْنُ الثَّنَا

وَقَدْ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كلمت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته». وقال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة المروءة تجنب الدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال.
فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه، واجتباه الثمار مِنْه بسهولة ويسر، ومروءة الخلق سعته وبسطه للحبيب والبغيض.
ومروءة المال الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا.
ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذل.
وأما مروءة الترك، فترك الخصام والمعاتبة والممارات، والإغضاء عن عيب مَا يأخذه من حقك وترك الاستقصاء فِي طلبه والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد مِنْهُمْ عثرة، والتوقير للكبير، وحفظ حرمة النظير، ورعاية أدب الصغير.

.درجات المروءة:

قال: وهي عَلَى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: مروءة الإنسان مع نفسه، وهي أن يحملها قسرًا عَلَى مَا يجمل ويزين وترك مَا يدنس ويشين، ليصير لها ملكة فِي جهره وعلانيته.
وَهَلْ يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوْهِهِمْ ** إِذَا كَانَتِ الأعْرَاضُ غَيْرُ حِسَانِ

فَلا تَجْعَلِ الْحُسْنَ الدَّلِيْلَ على الْفَتَى ** فَمَا كُلُّ مَصْقُوْلِ الْحَدِيْدِ يَمَانِي

آخر:
كَالثُّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفَةً ** فَلا يُفْرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْفَنَدِ

الْجَهْلُ شَخْصُ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ ** لا تَسْألَ الرَّبْعَ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أحَدِ

آخر:
خَلِيْلَيَّ كَمْ ثَوْبٍ وَكَمْ مِنْ عَبَاءَةٍ ** عَلَى جَسَدٍ مَا فِيهِ عِلْمٌ وَلا عَقْلُ

وَكَمْ لِحْيَةٍ طَالَتْ عَلَى خَدِّ جَاهِلٍ ** فَأَزَرَى بِهَا مِنْ بَعْدَمَا طَالَتَ الْجَهْلُ

وَكَمْ رَاكِبِ بَغْلاً لَهُ عَقْلُ بَغْلَهِ ** تَأَمَلْ تَرَى بَغْلاً عَلَى ظَهْرِهِ بَغْلُ

آخر:
كُلُّ الأنَامِ بَنُوْأَبٍ لَكِنَّمَا ** بِالْفََضْلِ تَعْرِفُ قِيْمَةُ الإنْسَان

فلا يكشف عروته فِي الخلوة، ولا يتجشأ بصوت مزعج مَا وجد إِلَى خلافه سبيلا، ولا يخرج الريح بصوت ولا يجشع وينهم عند أكله وحده وبالجملة فلا يفعل خاليًا مات يستحي من فعله فِي الملإ إلا مَا يحظره الشرع والعقل إن وافق الشرع ولا يكون إلا فِي الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك.
الدرجة الثانية: المروءة مع الخلق: بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم مَا يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس المتمشين مع الشريعة المطهرة فِي أقوالهم وأفعالهم مرآة لنفسه فكل مَا كرهه ونفر عنْه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله.
وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه، وعديم المروءة وغزيرها، وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق.
وكان لآخر زوجة حمقاء بذيئة اللسان تشتمه بل وتلعنه باستمرار وتدعو عليه من دون داع فقيل له: كيف تصبر عليها وهذه سيرتها معك غفر الله لك.
فقال: أدرس عليها مكارم الأخلاق وبالأخص الحلم والصبر وأريد أن تبرز زلاتي فأتجنبها وكان كثيرًا مَا يتمثل بهاذين البيتين:
عُدَاتِيَ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةٌ ** فَلا أَذْهَبَ الرَّحْمَنُ عَنِّيَ الأعَادِيَا

هَمُّوْا بَحَثُوْا عَنْ زُلَتِيْ فَأَجْتَنَبْتُهَا ** وَهَمْ نَافِسُوْنِي فَاكتَسَبْتُ الْمَعَالِيَا

وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق فِي ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس عَلَى مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه ولكن مَا يفعل ذلك إلا القليل الذين قَدْ وطنوا أنفسهم.
كما قيل:
النَّاسُ مِثْلُ بُيُوتِ الشَّعْرِ كَمْ رَجُلٍ ** مِنْهُمْ بِأَلْفٍ وَكَمْ بَيْتٍ بِدِيوَان

آخر:
وَكَمْ للهِ مِنْ عَبْدٍ سَمِيْنٍ ** كَثِيْرَ اللَحْمُ مَهْزُوْلِ الْمَعَالِي

كَشِبْهِ الطَّبْلِ يُسْمَعُ مِنْ بَعِيْدٍ ** وَبَاطِنُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ خَالِي

الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق، بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك فِي كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان إنه قَدْ اشتراها منك وأنت ساع فِي تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة تسليمه عَلَى مَا فيه من عيوب وتقاضي الثمن كاملاً أو رؤية منته فِي هذا الإصلاح وأنه المتولي له لا أنت.
والاشتغال بإصلاح عيوبك نفسك عن التفاتك إِلَى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحه. اهـ.
عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعَايِبِهَا ** وَخَلِّي مِنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ لِلنَّاس

ومما تقدم يتبين لنا أن مراعاة النفس عَلَى أكمل الأحوال وأفضلها هي المروءة وإذا كانت فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها إلا من وفقه الله وسهل عليه المشاق ويود كل أحد لو حصلت له المروءة ولكن كما قيل:
وَكُلَّ يَرَى طُرُقَ الشَّجَاعَةِ وَالنَّدَى ** وَلَكِنْ طَبْعُ النَّفْسِ لِلنَّفْسِ قَائِدُ

آخر:
فَلا تَحْسَبُوْا أَنَّ الْمَعَالِي رَخِيْصِةً ** وَلا أَنَّ إِدْرَاكَ الْعُلَى هَيِّنٌ سَهْلُ

فَمَا كُلُّ مَنْ يِسْعَى إِلَى الْمَجْدِ نَالَهُ ** وَلا كُلُّ مِنْ يَهْوَى الْعَلا نَفْسُهُ تَعْلُو

قال العلماء: والداعي إِلَى استسهال المشاق شيئان علو الهمة وشرف الله فأما علو الهمة فيدعو إِلَى التقدم وَقَدْ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره دنيها وسفسافها». قال المناوي: معالي الأمور وأشرافها هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية. اهـ.
وأما سفساف الأمور فهو حقيرها ورديؤها، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تصغرن هممكم فإني لَمْ أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم.
حَاوِلْ جَسِيْمَاتِ الأمُوْرِ وَلا تَقُلْ ** إنَّ الْمَحَامِدَ وَالْعُلَى أَرْزَاقُ

آخر:
يَسْتَقْرَبُ الدَّارَ شَوْقًا وَهْيَ نَازِحَةٌ ** مَنْ عَالَجَ الشَّوْقُ لَمْ يَسْتَبْعِدَ الدَّارَا

آخر:
فَإِنَّ عَلِيَّاتِ الأمُوْرِ مَشُوْبَةٌ ** بِمُسْتَوْدَعَاتٍ فِي بُطُوْنِ الأسَاوُدِ

آخر:
بَصُرْتَ بِالْحَالِةِ الْعُلْيَا فَلَمْ تَرْهَا ** نُتَنَالُ إلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

آخر:
وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوْبٍ النَّاسَ شَيْئًا ** كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ على التَّمَام

ويقول:
تُرِيْدِيْنَ لُقْيَانَ الْمَعَالِي رَخِيْصَةً ** وَلا بُدَّ دُوْنَ الشَّهْدِ مِنْ إبَرِ النَّحْل

وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمرًا ظفر به أعظمهما مروءة لكثرة وجاهته ووسائطه عند ذوي الأمر، وأما شرف النفس فيدعو إِلَى الشهامة وهي الحرص عَلَى مَا يوجب الذكر الجميل، والاحتمال وهو إتعاب النفس فِي الحسنات كما قيل:
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ** فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيْلُ

فباتعا بها يكون التأديب واستقرار التقويم والتهذيب لأنها ربما تركت الأفضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأنيب وهي له مستحسنة، لأنها عليه غير مطبوعة غير ملائمة، وَقَدْ قيل: مَا أكثر من يعرف الحق ولا بطبعه، وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة فإذا خالط شرف النفس الآداب صادف طبعًا ملائمًا فنما واستقر بإذن الله تعالى.
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوْسُ كِبَارًا ** تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجْسَامُ

اللهم احمنا عن الميل والركون إِلَى أعدائك وارزقنا بغضهم وسأعوانهم والمؤيدين لهم اللهم شتت شملهم ودمرهم أجمعين وانصر من نصر الإسلام والمسلمين وأحب فيك وأبغض فيك يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.